سورة يوسف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}
اعلم أنهم لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء باكين ورواه ابن جني عشا بضم العين والقصر وقال: عشوا من البكاء فعند ذلك فزع يعقوب وقال: هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا قال: فما فعل يوسف؟ قالوا: {ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب} فبكى وصاح وقال: أين القميص؟ فطرحه على وجهه حتى تخضب وجهه من دم القميص، وروي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي: يا أبا أمية ما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق، واختلفوا في معنى الاستباق قال الزجاج: يسابق بعضهم بعضاً في الرمي، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر» يعني بالنصل الرمي، وأصل السبق في الرمي بالسهم هو أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهماً وأبعد غلوة، ثم يوصف المتراميان بذلك فيقال: استبقا وتسابقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أسبق سهماً ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبدالله {إِنَّا ذَهَبْنَا}.
والقول الثاني: في تفسير الاستباق ما قاله السدي ومقاتل: {ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدواً.
فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون وهذا من فعل الصبيان؟
قلنا: الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ولأنه كالآلة لهم في محاربة العدو ومدافعة الذئب إذا اختلس الشاة وقوله: {فَأَكَلَهُ الذئب} قيل أكل الذئب يوسف وقيل عرَّضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع، والوجه هو الأول.


ثم قالوا: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ليس المعنى أن يعقوب عليه السلام لا يصدق من يعلم أنه صادق، بل المعنى لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف لشدة محبتك إياه ولظننت أنا قد كذبنا والحاصل أنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا. وقيل: المعنى: إنا وإن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أمارة تدل على صدقنا.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق، لأن المراد من قوله: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} أي بمصدق، وإذا ثبت أن الأمر كذلك في أصل اللغة وجب أن يبقى في عرف الشرع كذلك، وقد سبق الاستقصاء فيه في أول سورة البقرة في تفسير قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3].
ثم قال تعالى: {وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إنما جاؤا بهذا القميص الملطخ بالدم ليوهم كونهم صادقين في مقالتهم. قيل: ذبحوا جدياً ولطخوا ذلك القميص بدمه.
قال القاضي: ولعل غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيداً لصدقهم، لأنه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الإيهام أقوى، فلما شاهد يعقوب القميص صحيحاً علم كذبهم.
المسألة الثانية: قوله: {وَجَاءوا على قَمِيصِهِ} أي وجاؤا فوق قميصه بدم كما يقال: جاؤا على جمالهم بأحمال.
المسألة الثالثة: قال أصحاب العربية وهم الفراء والمبرد والزجاج وابن الأنباري {بِدَمٍ كَذِبٍ} أي مكذوب فيه، إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب ولكنه جعل نفسه كذباً للمبالغة قالوا: والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال: ماء سكب، أي مسكوب ودرهم ضرب الأمير وثوب نسج اليمن، والفاعل كقوله: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] ورجل عدل وصوم، ونساء نوح ولما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضاً بهما فقالوا: للعقل المعقول، وللجلد المجلود، ومنه قوله تعالى: {بِأَيّكُمُ المفتون} [القلم: 6] وقوله: {إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 7] قال الشعبي: قصة يوسف كلها في قميصه، وذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه، ولما شهد الشاهد قال: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} [يوسف: 26] ولما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقى على وجهه ارتد بصيراً، ثم ذكر تعالى أن أخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا}.
قال ابن عباس: معناه: بل زينت لكم أنفسكم أمراً. والتسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري: كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان، وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره. وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز وقال صاحب الكشاف: {سَوَّلَتْ} سهلت من السول وهو الاسترخاء.
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: {بَلِ} رد لقولهم: {أَكَلَهُ الذئب} كأنه قال: ليس كما تقولون: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} في شأنه {أمْراً} أي زينت لكم أنفسكم أمراً غير ما تصفون، واختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه: لأول: أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم.
والثاني: أنه كان عالماً بأنه حي لأنه عليه الصلاة والسلام قال ليوسف: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] وذلك دليل قاطع على أنهم كاذبون في ذلك.
القول الثالث: قال سعيد بن جبير: لما جاؤا على قميصه بدم كذب، وما كان متخرقاً، قال كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه، وعن السدي أنه قال: إن يعقوب عليه السلام قال: إن هذا الذئب كان رحيماً، فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه؟ وقيل: إنه عليه السلام لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله اللصوص، فقال كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله؟ فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم. ثم قال يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: منهم من قال: إنه مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: فصبر جميل أولى من الجزع، ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل.
وقال قطرب: معناه: فصبري صبر جميل.
وقال الفراء: فهو صبر جميل.
المسألة الثانية: كان يعقوب عليه السلام قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة، فقيل له: ما هذا؟ فقال طول الزمان وكثرة الأحزان: فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
وروي عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك أنها قالت: والله لئن حلفت لا تصدقوني وإن اعتذرت لا تعذروني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} فأنزل الله عز وجل في عذرها ما أنزل.
المسألة الثالثة: عن الحسن أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فقال: صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر ويدل عليه من القرآن قوله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله} [يوسف: 86] وقال مجاهد: فصبر جميل، أي من غير جزع، وقال الثوري: من الصبر أن لا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك، وهاهنا بحث وهو أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب فأما الصبر على ظلم الظالمين، ومكر الماكرين فغير واجب، بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير، وهاهنا أن إخوة يوسف لما ظهر كذبهم وخيانتهم فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولم لم يبالغ في التفتيش والبحث سعياً منه في تخليص يوسف عليه السلام عن البلية والشدة إن كان في الأحياء وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه، فثبت أن الصبر في المقام مذموم.
ومما يقوي هذا السؤال أنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بأنه حي سليم لأنه قال له: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} [يوسف: 6] والظاهر أنه إنما قال هذا الكلام من الوحي وإذا كان عالماً بأنه حي سليم فكان من الواجب أن يسعى في طلبه. وأيضاً إن يعقوب عليه السلام كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيت عظيم شريف، وأهل العلم كانوا يعرفونه ويعتقدون فيه ويعظمونه فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في أنه عليه السلام مع شدة رغبته في حضور يوسف عليه السلام، ونهاية حبه له لم يطلبه مع أن طلبه كان من الواجبات، فثبت أن هذا الصبر في هذا المقام مذموم عقلاً وشرعاً.
والجواب عنه: أن نقول لا جواب عنه إلا أن يقال إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليظاً للأمر عليه، وأيضاً لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص، وأنه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضاً لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة، ثم لم يرد هتك أستار سرائر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه، فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر إلى الله تعالى بالكلية.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يدل على أن الصبر على قسمين منه ما قد يكون جميلاً وما قد يكون غير جميل، فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو الله تعالى، ثم يعلم أن الله سبحانه مالك الملك ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً له من إظهار الشكاية.
والوجه الثاني: أنه يعلم أن منزل هذا البلاء، حكيم لا يجهل، وعالم لا يغفل، عليم لا ينسى رحيم لا يطغى، وإذا كان كذلك، فكان كل ما صدر عنه حكمة وصواباً، فعند ذلك يسكت ولا يعترض.
والوجه الثالث: أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق، فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء ولذلك قيل: المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء، لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والحظ وموصل النصيب لا يكون محبوباً بالذات بل بالعرض، فهذا هو الصبر الجميل.
أما إذا كان الصبر لا لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه بل كان لسائر الأغراض، فذلك الصبر لا يكون جميلاً، والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا، وهاهنا يظهر صدق ما روي في الأثر استفت قلبك، ولو أفتاك المفتون فليتأمل الرجل تأملاً شافياً، أن الذي أتى به هل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا؟ فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة. ولما ذكر يعقوب قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} قال: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} والمعنى: أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى، لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا، فكأنه وقعت المحاربة بين الصنفين، فما لم تحصر إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة، فقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} يجري مجرى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وقوله: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} يجري مجرى قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].


{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)}
اعلم أنه تعالى بين كيف سهل السبيل في خلاص يوسف من تلك المحنة، فقال: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} يعني رفقة تسير للسفر.
قال ابن عباس: جاءت سيارة أي قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطؤا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف عليه السلام، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة، وقيل: كان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف عليه السلام فأرسلوا رجلاً يقال له: مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء، والوارد الذي يرد الماء ليستقي القوم {فأدلى دَلْوَهُ} ونقل الواحدي عن عامة أهل اللغة أنه يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها إذا نزعها من البئر يقال: أدلى يدلي إدلاء إذا أرسل ودلا يدلو دلواً إذا جذب وأخرج، والدلو معروف، والجمع دلاء {قَالَ يَا بُشْرى هذا غُلاَمٌ} وهاهنا محذوف، والتقدير: فظهر يوسف قال المفسرون: لما أدلى الوارد دلوه وكان يوسف في ناحية من قعر البئر تعلق بالحبل فنظر الوارد إليه ورأى حسنه نادى، فقال: يا بشرى. وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي {بُشْرىً} بغير الألف وبسكون الياء، والباقون يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة.
المسألة الثانية: في قوله: {الرياح بُشْرىً} قولان:
القول الأول: أنها كلمة تذكر عند البشارة ونظيره قولهم: يا عجباً من كذا وقوله: {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} وعلى هذا القول ففي تفسير النداء وجهان:
الأول: قال الزجاج: معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين وتوكيد القصة فإذا قلت: يا عجباه فكأنك قلت اعجبوا.
الثاني: قال أبو علي: كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك، ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور.
واعلم أن سبب البشارة هو أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن وقالوا: نبيعه بثمن عظيم ويصير ذلك سبباً لحصول الغنى.
والقول الثاني: وهو الذي ذكره السدي أن الذي نادى صاحبه وكان اسمه، فقال يا بشرى كما تقول يا زيد.
وعن الأعمش أنه قال: دعا امرأة اسمها بشرى {الرياح بُشْرىً} قال أبو علي الفارسي: إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة، وهو الوجه جاز أن يكون في محل الرفع كما قيل: يا رجل لاختصاصه بالنداء، وجاز أن يكون في موضع النصب على تقدير: أنه جعل ذلك النداء شائعاً في جنس البشرى، ولم يخص كما تقول: يا رجلاً {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30].
وأما قوله تعالى: {وَأَسَرُّوهُ بضاعة} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: الضمير في {وَأَسَرُّوهُ} إلى من يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه في الجب، وذلك لأنهم قالوا: إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه، وإن قلنا اشتريناه: سألونا الشركة، فالأصوب أن نقول: إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر.
والثاني: نقل عن ابن عباس أنه قال: {وَأَسَرُّوهُ} يعني: إخوة يوسف أسروا شأنه، والمعنى: أنهم أخفوا كونه أخاً لهم، بل قالوا: إنه عبد لنا أبق منا وتابعهم على ذلك يوسف لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية، والأول أولى لأن قوله: {وَأَسَرُّوهُ بضاعة} يدل على أن المراد أسروه حال ما حكموا بأنه بضاعة، وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف.
المسألة الثانية: البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت اللحم إذا قطعته.
قال الزجاج: وبضاعة منصوبة على الحال كأنه قال: وأسروه حال ما جعلوه بضاعة.
ثم قال تعالى: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} والمراد منه أن يوسف عليه السلام لما رأى الكواكب والشمس والقمر في النوم سجدت له وذكر ذلك حسده إخوته عليه واحتالوا في إبطال ذلك الأمر عليه فأوقعوه في البلاء الشديد حتى لا يتيسر له ذلك المقصود، وأنه تعالى جعل وقوعه في ذلك البلاء سبباً إلى وصوله إلى مصر، ثم تمادت وقائعه وتتابع الأمر إلى أن صار ملك مصر وحصل ذلك الذي رآه في النوم فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيره الله تعالى سبباً لحصول ذلك المطلوب، فلهذا المعنى قال: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
ثم قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دراهم مَعْدُودَةٍ} أما قوله: {وَشَرَوْهُ} ففيه قولان:
القول الأول: المراد من الشراء هو البيع، وعلى هذا التقدير ففي ذلك البائع قولان:
القول الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن إخوة يوسف لما طرحوا يوسف في الجب ورجعوا عادوا بعد ثلاث يتعرفون خبره، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا: هذا عبدنا أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منا فباعوه منهم، والمراد من قوله: {وَشَرَوْهُ} أي باعوه يقال: شريت الشيء إذا بعته، وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع، لأن الضمير في قوله: {وَشَرَوْهُ} وفي قوله: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين} عائد إلى شيء واحد لكن الضمير في قوله: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين} عائد إلى الإخوة فكذا في قوله: {وَشَرَوْهُ} يجب أن يكون عائداً إلى الإخوة، وإذا كان كذلك فهم باعوه فوجب حمل هذا الشراء على البيع.
والقول الثاني: أن بائع يوسف هم الذين استخرجوه من البئر، وقال محمد بن إسحاق: ربك أعلم أإخوته باعوه أم السيارة، وهاهنا قول آخر وهو أنه يحتمل أن يقال: المراد من الشراء نفس الشراء، والمعنى أن القوم اشتروه وكانوا فيه من الزاهدين، لأنهم علموا بقائن الحال أن إخوة يوسف كذابون في قولهم إنه عبدنا وربما عرفوا أيضاً أنه ولد يعقوب فكرهوا شراءه خوفاً من الله تعالى، ومن ظهور تلك الواقعة، إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة لأنهم اشتروه بثمن قليل مع أنهم أظهروا من أنفسهم كونهم فيه من الزاهدين، وغرضهم أن يتوصلوا بذلك إلى تقليل الثمن، ويحتمل أيضاً أن يقال إن الأخوة لما قالوا: إنه عبدنا أبق صار المشتري عديم الرغبة فيه.
قال مجاهد: وكانوا يقولون استوثقوا منه لئلا يأبق.
ثم اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث.
الصفة الأولى: كونه بخساً.
قال ابن عباس: يريد حراماً لأن ثمن الحر حرام، وقال كل بخس في كتاب الله نقصان إلا هذا فإنه حرام، قال الواحدي سموا الحرام بخساً لأنه ناقص البركة، وقال قتادة: بخس ظلم والظلم نقصان يقال ظلمه أي نقصه، وقال عكرمة والشعبي قليل وقيل: ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً، وقيل كانت الدراهم زيوفاً ناقصة العيار.
قال الواحدي رحمه الله تعالى: وعلى الأقوال كلها، فالبخس مصدر وضع موضع الاسم، والمعنى بثمن مبخوس.
الصفة الثانية: قوله: {دراهم مَعْدُودَةٍ} قيل تعد عداً ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا إذا بلغ أوقية، وهي الأربعون ويعدون ما دونها فقيل للقليل معدود، لأن الكثيرة يمتنع من عدها لكثرتها، وعن ابن عباس كانت عشرين درهماً، وعن السدي اثنين وعشرين درهماً. قالوا والإخوة كانوا أحد عشر فكل واحد منهم أخذ درهمين إلا يهوذا لم يأخذ شيئاً.
الصفة الثالثة: قوله: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين} ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه وأصله القلة. يقال: رجل زهيد إذا كان قليل الطمع، وفيه وجوه:
أحدها: أن إخوة يوسف باعوه، لأنهم كانوا فيه من الزاهدين.
والثاني: أن السيارة الذين باعوه كانوا فيه من الزاهدين، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بأي شيء يبيعه أو لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بأوكس الأثمان.
والثالث: أن الذين اشتروه كانوا فيه من الزاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال فيما تقدم، والضمير في قوله: {فِيهِ} يحتمل أن يكون عائد إلى يوسف عليه السلام، ويحتمل أن يكون عائداً إلى الثمن البخس والله أعلم.


{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه هناك. وقيل إن الذي اشتراه قطفير أو إطفير وهو العزيز الذي كان يلي خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل كان الملك في أيامه فرعوه موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} [غافر: 34] وقيل فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، وقيل اشتراه العزيز بعشرين ديناراً، وفيل أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه ما يساويه في الوزن من المسك والورق والحرير فابتاعه قطفير بذلك الثمن.
وقالوا: اسم تلك المرأة زليخا، وقيل راعيل.
واعلم أن شيئاً من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن، ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات، فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها.
المسألة الثانية: قوله: {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} أي منزله ومقامه عندك من قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به، ومصدره الثواء والمعنى: اجعلي منزله عندك كريماً حسناً مرضياً بدليل قوله: {إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} وقال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه، يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال: سلام الله على المجلس العالي، ولما أمرها بإكرام مثواه علل ذلك بأن قال: {عسى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي يقوم بإصلاح مهماتنا، أو نتخذه ولداً، لأنه كان لا يولد له ولد، وكان حصوراً.
ثم قال تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجب مكناه بأن عطفنا عليه قلب العزيز، حتى توصل بذلك إلى أن صار متمكناً من الأمر والنهي في أرض مصر.
واعلم أن الكمالات الحقيقية ليست إلا القدرة والعلم وأنه سبحانه لما حاول إعلاء شأن يوسف ذكره بهذين الوصفين، أما تكميله في صفة القدرة والمكنة فإليه الإشارة بقوله: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} وأما تكميله في صفة العلم، فإليه الإشارة بقوله: {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} وقد تقدم تفسير هذه الكلمة.
واعلم أنا ذكرنا أنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} [يوسف: 15] وذلك يدل ظاهراً على أنه تعالى أوحى إليه في ذلك الوقت. وعندنا الإرهاص جائز، فلا يبعد أن يقال: إن ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت ما كان لأجل بعثته إلى الخلق، بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام، ثم إنه تعالى قال هاهنا {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} والمراد منه إرساله إلى الخلق بتبليغ التكاليف، ودعوة الخلق إلى الدين الحق، ويحتمل أيضاً أن يقال: إن ذلك الوحي الأول كان لأجل الرسالة والنبوة ويحمل قوله: {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} على أنه تعالى أوحى إليه بزيادات ودرجات يصير بها كل يوم أعلى حالاً مما كان قبله وقال ابن مسعود: أشد النار فراسة ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، والمرأة لما رأت موسى، فقالت: {إِحْدَاهُمَا ياأبت استجره} [القصص: 26] وأبو بكر حين استخلف عمر.
ثم قال تعالى: {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} وفيه وجهان:
الأول: غالب على أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه، والثاني: والله غالب على أمر يوسف، يعني أن انتظام أموره كان إلهياً، وما كان بسعيه وإخوته أرادوا به كل سوء ومكروه والله أراد به الخير، فكان كما أراد الله تعالى ودبر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله.
واعلم أن من تأمل في أحوال الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أن الأمر كله لله، وأن قضاء الله غالب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8